الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
{وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإنسان} هو للجنس: {مِنَّا رَحْمَةً} نعمة من صحة وأمن وجدة.واللام في: {لئن} لتوطئة القسم: {ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ} ثم سلبناه تلك النعمة وجواب القسم: {إِنَّهُ لَيَئُوسٌ} شديد اليأس من أن يعود إلى مثل تلك النعمة المسلوبة قاطع رجاءه من سعة فضل الله من غير صبر ولا تسليم لقضائه: {كَفُورٌ} عظيم الكفران لما سلف له من التقلب في نعمة الله نسّاء له: {وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاء بَعْدَ ضَرَّاء مَسَّتْهُ} وسعنا عليه النعمة بعد الفقر الذي ناله: {لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السيئات عَنّي} أي المصائب التي ساءتني: {إِنَّهُ لَفَرِحٌ} أشر بطر: {فَخُورٌ} على الناس بما أذاقه الله من نعمائه قد شغله الفرح والفخر عن الشكر: {إِلاَّ الذين صَبَرُواْ} في المحنة والبلاء: {وَعَمِلُواْ الصالحات} وشكروا في النعمة والرخاء: {أُوْلَئِكَ لَهُمْ مَّغْفِرَةٌ} لذنوبهم: {وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} يعني الجنة كانوا يقترحون عليه آيات تعنتا لا استرشادًا لأنهم لو كانوا مسترشدين لكانت آية واحدة مما جاء به كافية في رشادهم.ومن اقتراحاتهم: {لولا أنزل عليه كنز أو جاء معه ملك} [الفرقان: 7] وكانوا لا يعتدون بالقرآن ويتهاونون به فكان يضيق صدر رسول صلى الله عليه وسلم أن يلقي إليهم ما لا يقبلونه ويضحكون منه فهيجه لأداء الرسالة وطرح المبالاة بردهم واستهزائهم واقتراحهم بقوله: {فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يوحى إِلَيْكَ} أي لعلك تترك أن تلقيه إليهم وتبلغه إياهم مخافة ردهم له وتهاونهم به: {وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ} بأن تتلوه عليهم ولم يقل ضيق ليدل على أنه ضيق عارض غير ثابت لأنه عليه السلام كان أفسح الناس صدرًا ولأنه أشكل ب: {تارك}، {أَن يَقُولُواْ} مخافة أن يقولوا: {لَوْلاَ أُنُزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ أَوْ جَاء مَعَهُ مَلَكٌ} هلا أنزل عليه ما اقترحنا من الكنز لننفقه والملائكة لنصدقه ولم أنزل عليه ما لا نريده ولا نقترحه: {إِنَّمَا أَنتَ نَذِيرٌ} أي ليس عليك إلا أن تنذرهم بما أوحي إليك وتبلغهم ما أمرت بتبليغه، ولا عليك أن ردوا أو تهاونوا: {والله على كُلّ شَئ وَكِيلٌ} يحفظ ما يقولون وهو فاعل بهم ما يجب أن يفعل، فتوكل عليه وكل أمرك إليه وعليك بتبليغ الوحي بقلب فسيح وصدر منشرح غير ملتفت إلى استكبارهم ولا مبال بسفههم واستهزائهم.{أَمْ يَقُولُونَ} {أم} منقطعة: {افتراه} الضمير لما يوحى إليك: {قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ} تحداهم أولا بعشر سور ثم بسورة واحدة كما يقول المخابر في الخط لصاحبه: اكتب عشر أسطر نحو ما أكتب فإذا تبين له العجز عن ذلك قال: اقتصرت منك على سطر واحد: {مّثْلِهِ} في الحسن والجزالة.ومعنى: {مثله} أمثاله ذهابًا إلى مماثلة كل واحدة منها له: {مُفْتَرَيَاتٍ} صفة ل: {عشر سور}.لما قالوا افتريت القرآن واختلقته من عندك وليس من عند الله، أرضى معهم العنان وقال: هبوا أني اختلقته من عند نفسي فأتوا أنتم أيضًا بكلام مثله مختلق من عند أنفسكم فأنتم عرب فصحاء مثلي: {وادعوا مَنِ استطعتم مّن دُونِ الله} إلى المعاونة على المعارضة: {إِن كُنتُمْ صادقين} أنه مفترى: {فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ فاعلموا أَنَّمَا أُنزِلِ بِعِلْمِ الله وَأَن لاَّ إله إِلاَّ هُوَ} أي أنزل ملتبسًا بما لا يعلمه إلا الله من نظم معجز للخلق وإخبار بغيوب لا سبيل لهم إليه واعلموا عند ذلك أن لا إله إلا الله وحده وأن توحيده واجب والإشراك به ظلم عظيم، وإنما جمع الخطاب بعد إفراده وهو قوله: {لكم فاعلموا} بعد قوله: {قل} لأن الجمع لتعظيم رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين كانوا يحدثونهم أو لأن الخطاب للمشركين.والضمير في: {فإن لم يستجيبوا} لمن استطعتم أي فإن لم يستجب لكم من تدعونه من دون الله إلى المظاهرة على المعارضة لعلمهم بالعجز عنه فاعلموا أنما أنزل بعلم الله أي بإذنه أو بأمره: {فَهَلْ أَنتُمْ مُّسْلِمُونَ} متبعون للإسلام بعد هذه الحجة القاطعة.ومن جعل الخطاب للمسلمين فمعناه فاثبتوا على العلم الذي أنتم عليه وازدادوا يقينًا على أنه منزل من عند الله وعلى التوحيد فهل أنتم مسلمون مخلصون.{مَن كَانَ يُرِيدُ الحياة الدنيا وَزِينَتَهَا نُوَفّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ} نوصل إليهم أجور أعمالهم وافيه كاملة من غير بخس في الدنيا، وهو ما يرزقون فيها من الصحة والرزق، وهم الكفار أو المنافقون: {أُوْلَئِكَ الذين لَيْسَ لَهُمْ في الأخرة إِلاَّ النار وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا} وحبط في الآخرة ما صنعوه أو صنيعهم أي لم يكن لهم ثواب لأنهم لم يزيدوا به الآخرة إنما أرادوا به الدنيا وقد وفى إليهم ما أرادوا: {وباطل مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} أي كان عملهم في نفسه باطلًا لأنه لم يعمل لغرض صحيح والعمل الباطل لا ثواب له: {أَفَمَن كَانَ على بَيّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ} أمن كان يريد الحياة الدنيا كما كان على بينة من ربه أي لا يعقبونهم في المنزلة ولا يقاربونهم يعني أن بين الفريقين تباينًا بينا وأراد بهم من آمن من اليهود كعبد الله بن سلام وغيره كان على بينة من ربه أي على برهان من الله وبيان أن دين الإسلام وهو دليل العقل: {وَيَتْلُوهُ} ويتبع ذلك البرهان: {شَاهِدٌ} يشهد بصحته وهو القرآن: {مِنْهُ} من الله أو من القرآن فقد مر ذكره آنفًا: {وَمِن قَبْلِهِ} ومن قبل القرآن: {كِتَابُ موسى} وهو التوراة أي ويتلو ذلك البرهان أيضًا من قبل القرآن كتاب موسى عليه السلام: {إِمَامًا} كتابًا مؤتمًا به في الدين قدوة فيه: {وَرَحْمَةً} ونعمة عظيمة على المنزل إليهم وهما حالان: {أولئك} أي من كان على بينة: {يُؤْمِنُونَ بِهِ} بالقرآن: {وَمن يَكْفُرْ بِهِ} بالقرآن: {مّن الأحزاب} يعني أهل مكة ومن ضامهم من المتحزبين على رسول الله صلى الله عليه وسلم: {فالنار مَوْعِدُهُ} مصيره ومورده: {فَلاَ تَكُ في مِرْيَةٍ} شك: {مِنْهُ} من القرآن أو من الموعد: {إِنَّهُ الحق مِن رَّبّكَ ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يُؤْمِنُونَ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِبًا أُوْلَئِكَ يُعْرَضُونَ على رَبّهِمْ} يحبسون في الموقف وتعرض أعمالهم: {وَيَقُولُ الأشهاد هَؤُلاء الذين كَذَبُواْ على رَبّهِمْ} ويشهد عليهم الأشهاد من الملائكة والنبيين بأنهم الكذابون على الله بأنه اتخذ ولدًا وشريكًا: {أَلاَ لَعْنَةُ الله عَلَى الظالمين} الكاذبين على ربهم والأشهاد جمع شاهد كأصحاب وصاحب أو شهيد كشريف وأشراف: {الذين يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله} يصرفون الناس عن دينه: {وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا} يصفونها بالاعوجاج وهي مستقيمة أو يبغون أهلها أن يعوجوا بالارتداد: {وَهُمْ بالأخرة هُمْ كافرون} {هم} الثانية لتأكيد كفرهم بالآخرة واختصاصهم به: {أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُواْ} أي ما كانوا: {مُعْجِزِينَ في الأرض} بمعجزين الله في الدنيا أن يعاقبهم لو أراد عقابهم: {وَمَا كَانَ لَهُمْ مّن دُونِ الله مِنْ أَوْلِيَاء} من يتولاهم فينصرهم منه ويمنعهم من عقابه ولكنه أراد إنظارهم وتأخير عقابهم إلى هذا اليوم وهو من كلام الأشهاد: {يُضَاعَفُ لَهُمُ العذاب} لأنهم أضلوا الناس عن دين الله يضعّف مكي وشامي: {مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ السمع} أي استماع الحق: {وَمَا كَانُواْ يُبْصِرُونَ} الحق: {أُوْلَئِكَ الذين خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ} حيث اشتروا عبادة الآلهة بعبادة الله: {وَضَلَّ عَنْهُم} وبطل عنهم وضاع ما اشتروه وهو: {مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} من الآلهة وشفاعتها.{لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ في الأخرة هُمُ الأخسرون} بالصد والصدود وفي لا جرم أقوال أحدها أن لا رد لكلام سابق أي ليس الأمر كما زعموا ومعنى: {جرم} كسب وفاعله مضمر و: {أنهم في الآخرة} في محل النصب والتقدير كسب قولهم خسرانهم في الآخرة وثانيها أن: {لا جرم} كلمتان ركبتا فصار معناهما حقًا و{أن} في موضع رفع بأنه فاعل لحق أي حق خسرانهم، وثالثها أن معناه لا محالة.{إِنَّ الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات وَأَخْبَتُواْ إلى رَبّهِمْ} واطمأنوا إليه وانقطعوا إلى عبادته بالخشوع والتواضع من الخبت وهي الأرض المطمئنة: {أُوْلَئِكَ أصحاب الجنة هُمْ فِيهَا خالدون}، {مَثَلُ الفريقين كالأعمى والأصم والبصير والسميع} شبه فريق الكافرين بالأعمى والأصم وفريق المؤمنين بالبصير والسميع: {هَلْ يَسْتَوِيَانِ} يعني الفريقين: {مَثَلًا} تشبيها وهو نصب على التمييز: {أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ} فتنتفعون بضرب المثل. اهـ.
|